مقدمة
تعيش المنطقة العربية حالة من السيولة السياسية والمتغيرات الفكرية والاستراتيجية وضعت المنطقة في حالة عنف واضطراب، مما شكل تهديداً للجغرافيا السياسية للمنطقة مهددة بالانقسام وتدمير البنى التحتية، وتشهد أيضاً تمدد المشروعات الإقليمية والدولية فيها والقائمة على إخضاع السيادة الوطنية لمصالح الدول الإقليمية والدولية، وكان من نتائج ذلك تغييرات ديموجرافية وتشريد ملايين من اللاجئين في أوطانهم وخارج أوطانهم، وانتشار وتمدد التطرف الديني والانهيار الاقتصادي والسياسي والاحتراب الفكري والحروب العسكرية والحشد الطائفي، ونشأ من هذا الصراع محاور إقليمية جديدة واصطفاف وتحالفات دولية اختزلت السيادة الوطنية وأرهقت السياسة المحلية وبعثرت الوحدة القومية، وأصبحت خطراً ضاراً بالأمن القومي العربي وقضت على أحلام الشعوب العربية في أن يقوم في هذه المنطقة نظام أو نموذج سياسي واقتصادي حر وديمقراطي وعادل وتنمية متقدمة.
إذ تبين بشكل لا يخفى على الخبراء أن النظام الدولي الحالي الذي نشأ منذ قرنين من الزمان قد أحكم إساره على المنطقة العربية، هذا النظام، الذي بُني وفق نظريات الجيوبلوتيك والنظريات الاستراتيجية الحديثة بما يجعل منطقتنا وهي منطقة الاصطدام غير قادرة أن تجعل لنفسها وزناً في النظام الدولي "سياسياً أو اقتصادياً، أو ثقافياً..."، كما أن النظام الدولي قد أحكم سيطرته بالاتفاقيات التاريخية والدولية التي قسمت العالم العربي والإسلامي وبالأدوات العولمية "السياسية والقانونية والاقتصادية"؛ بما يجعل هذه المنطقة تنساق تلقائياً وتبعاً وراء مصالحه، وبالرغم من قيام شعوب هذه المنطقة بمحاولات البناء والتنمية وإعادة الذات فإن ذلك كان يواجه بالكيد المحلي والمساندة الإقليمية وبالحسم الدولي بعدم التمكين وتفتيت كل جهد حقيقي لازدهار الديمقراطية والعدالة والتنمية في المنطقة العربية.
إن انشغال الجهود والعقول بحالة المشهد المضطرب والتدافع المستمر جعل عملية التفكير لتطوير نموذج سياسي يقود السياسة والاقتصاد والتنمية والثقافة ويعالج الأزمات في المنطقة ليس من مهمة أحد، وأصبحت مراكز التفكير والدراسات والأبحاث أقل المؤسسات تطوراً ونمواً في هذه المنطقة، وهي المعول عليها في عملية التفكير وتطوير النماذج الفكرية؛ مما يدعو إلى العمل لتأسيس مبادرة تحقق غرض الاهتمام بالتفكير الاستراتيجي في المنطقة.
لماذا التفكير والتخطيط الاستراتيجي؟
في ظل الأوضاع العالمية بالغة التعقيد، أصبح من البديهي إدراك أن تحقيق المصالح الاستراتيجية يتعذر دون قدرات تفاوضية وطنية وقدرات ومزايا تنافسية عالمية في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتقنية والإعلامية.. إلخ، لذا أصبح امتلاك القوة الاستراتيجية الشاملة وتحديد المسار الاستراتيجي للدولة ولمنظماتها وبلورة الرؤى الاستراتيجية أمراً ملحاً لا غنىً عنه؛ الشيء الذي يستدعي بالضرورة الاهتمام بالدراسات والفكر الاستراتيجي وتوفير كوادر ذات قدرة على التفكير والتخطيط الاستراتيجي وعلى إدارة التنفيذ والتغيير الاستراتيجي فضلاً عن ضرورة تشكيل مظلة من الوعي والإدراك الاستراتيجي.
شهد العقدان الماضيان إعداد دراسات عديدة في مختلف أنحاء العالم، حول أسباب من نجح في تحقيق نهضة شاملة طموحة كتلك التي جرت في ألمانيا والولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة إلخ، وكذلك أسباب تخلف بعض الدول الأخرى خاصة تلك التي تمتلك موارد ومزايا طبيعية.
ومما لا خلاف عليه هو أن معظم تلك الدراسات ركزت على مدى وجود تخطيط وفكر استراتيجي مساند لعمليات التخطيط الاستراتيجي ومساند لعمليات تنفيذ الاستراتيجية وقيادة التغيير الاستراتيجي للدولة.
وبالرجوع إلى عدد من الدراسات الأخرى، ومن ضمنها دراسة أعدت بواسطة اتحاد الجامعات الإسلامية، تأكد للباحثين أن الدول المستعمرة العربية والأفريقية لم ترث من المستعمر كليات للدراسات أو للتخطيط الاستراتيجي على مستوى الدول، بل حتى المناهج الدراسية في الجامعات لم تهتم بتدريس هذا العلم باستثناء الأكاديميات العسكرية التي اهتمت بالجانب العسكري منها.
إن تحقيق المصالح الاستراتيجية ومواجهة التعقيدات والتحديات يتطلب فكراً استراتيجياً وقدراً عالياً من التناسق بين نشاطات الدولة، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا من خلال التخطيط المسنود بالتفكير الاستراتيجي، والتخطيط الاستراتيجي القطاعي (التخطيط الاستراتيجي السياسي والاجتماعي، التخطيط الاستراتيجي للاقتصاد، التخطيط الاستراتيجي للإنتاج العلمي والتقني، التخطيط الاستراتيجي للمعلومات والإعلام، التخطيط الاستراتيجي الأمني والعسكري).
إن غياب هذا النوع من التخطيط الوطني، الإقليمي والقطاعي، أدى إلى لجوء معظم الدول النامية إلى استخدام علم التخطيط الاستراتيجي للمنظمات، للتخطيط في مستواها الوطني، الشيء الذي لم يمكنها من تحقيق إنجاز استراتيجي؛ وذلك لسبب بسيط وهو أن هذا العلم غير مصمم؛ وبالتالي غير مؤهل للتعامل مع قضايا الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والعلمية والتقنية والأمنية، وهذا لا يعني أهميته، فقد ثبت دوره جلياً في تحقيق النجاح، لكن على مستوى المنظمات والشركات.
لذا أصبح البعد المفقود في الدول النامية هو عدم توافر مخططين أو مفكرين استراتيجيين، وعدم توافر قيادات استراتيجية على المستوى السياسي أو المجتمعي، فضلاً عن عدم توافر الإسناد السلوكي والثقافي المطلوب لتخطيط وتنفيذ الاستراتيجيات.
كل ذلك يبرر الخلل وعدم القدرة على تحقيق التنمية والسيطرة والاستقرار، وجميعها لم تتحقق بحسب تجارب العالم بعد الحرب العالمية الثانية إلا بفضل التخطيط والفكر الاستراتيجي الذي يشكل المظلة لكل نشاط الدولة، ويوفر الإطار الفلسفي الذي يتم من خلاله تحقيق التناسق بين نشاطات الدولة، والربط بين الأهداف والسياسات والتشريعات، فضلاً عن تأسيس الشراكة بين الحكومة والمجتمع والقطاع الخاص في إطار تخطيط وتنفيذ الاستراتيجية.
إن وحدة القبلة الروحية مقرونة مع الموارد الطبيعية الهائلة للعالم الإسلامي وموقعه الجغرافي المتميز يؤهله ليكون في موطن المبادرة والاطلاع بدور فاعل وكبير على الصعيد العالمي، إلا أن تحقيق ذلك يتطلب إعمال التفكير والتخطيط الاستراتيجي.
إن إدارة وتأسيس الدولة في ظل التعقيدات على الساحة المحلية والإقليمية والعالمية يتطلب إنتاجاً متقدماً من الفكر الاستراتيجي يسند عمليات إدارة الدولة، وقد أكدت نتائج العديد من الأبحاث العلمية التي نوقشت في عدد من المؤتمرات المحلية والدولية ضعف الفكر الاستراتيجي في العالم الإسلامي؛ وهو ما جعله يتأخر رغم امتلاكه للموارد والمزايا الطبيعية الأخرى.
إن تشكيل مستقبل العالم الإسلامي بحكم أوضاعه الجيوستراتيجية يضعه في إطار تنافس دولي واستراتيجيات أجنبية لا يمكن التعامل معها إلا بترتيبات وفكر استراتيجي.
إن إنتاج الفكر الاستراتيجي وتوفير القيادة الاستراتيجية وخبراء التخطيط الاستراتيجي هي أساس بناء الدول وتشكيل مستقبلها باعتبارها توفر الإطار الكلي لنشاط الدولة وتوجهاتها على المدى البعيد، وهي مهام ظلت تتولاها مؤسسات تعليمية رائدة في الدول المتقدمة.
إن تأسيس جيل جديد من العقول الاستراتيجية للمساهمة في حلول الأزمات والتصورات الاستراتيجية يصبح فريضة واجبة؛ مما يؤكد أهمية إيجاد وعاء أكاديمي ومنهجي وعلمي لإعداد المفكرين الاستراتيجيين وتطوير عملية البحث الاستراتيجي لتأسيس أجيال من القادة والشباب يمتهنون عملية التفكير والبحث الاستراتيجية لتقديم أفضل ما عندهم لأوطانهم وأمتهم.
كما أن وجود مثل هذه الأكاديمية سيساهم في صناعة رجال دولة مقتدرين يمتلكون مهارات التفكير الاستراتيجي لإدارة الأزمات والمشكلات، ويستطيع توجيه القرار السياسي للدولة استراتيجياً.